[center]الجزء (26) : غزوة الخندق
لما أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير، خرج بعض زعمائهم وذهبوا إلى مكة، فدعوا قريشًا إلى حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: سنكون معكم حتى نستأصله ونقضي عليه، وقالوا لهم إن ما أنتم عليه خير من دين محمد، وفيهم نزل قول الله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً . أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا}
[النساء: 51-52].
ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا قبيلة غطفان فدعوهم إلى مثل ما دعوا قريشًا إليه، ولم يزالوا بهم حتى وافقوهم على ذلك ثم التقوا ببني فزارة، وبني مرَّة، واستطاعت قريش واليهود أن يجمعوا جيشًا ضخمًا يبلغ عشرة آلاف مقاتل، واتجهوا إلى المدينة ليقضوا على المسلمين.
ووصلت الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يرسل بعض المسلمين ليعرفوا أخبار الكفار، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين ليتشاوروا في الأمر، فأشار الصحابي الجليل سلمان الفارسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر خندق حول المدينة ليمنع دخول الكفار إليها، فقد كانوا يفعلون ذلك في بلاد فارس، وسيكون ذلك مفاجأة أمام كفار مكة وحلفائهم؛ لأنهم لا يعرفون هذه الحيل الحربية.
نظر المسلمون إلى مدينتهم، فوجدوها محاطة بالجبال والحصون والدور من كل جانب ما عدا الجانب الشمالي فقط، وهو الذي سيدخل منه الكفار، فحددوا مكان الحفر في ذلك الجانب، وبدأ المسلمون في حفر الخندق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشاركهم العمل، وانتهى المسلمون من حفر الخندق قبل أن تصل إليهم جيوش الكفار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهم، متمثلا ببيت من الشعر لعبد الله بن رواحة يقول:
اللهم إن العيشَ عيشُ الآخرة فاغفر للأنـــصارِ والمهَاجـِــرة
فيجيبه المسلمون بحماس منشدين:
نحن الذيـن بايعوا محمـدًا على الجهـاد مـا بقينا أبـــدا
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينقل التراب معهم من الخندق حتى أثر في بطنه، فقال بعض أبيات من شعر ابن رواحة -رضي الله عنه:
اللهمَّ لولا أنتَ ما اهْتَدينَـا ولا تصَدَّقْنا ولا صَلَّينـــــا
فــأنزلنْ سكينةً علينــا وثبِّت الأقدامَ إن لاقيـنــــا
إن الألى قد بَغَوا علينا إذا أرادوا فتنةً أبينا
[متفق عليه].
وأثناء ذلك العمل الصعب نظر الصحابي الجليل جابر بن عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه يربط على بطنه حجرين ليخفف عنه ألم الجوع ويعمل، ويحمل التراب، فأسرع جابر إلى امرأته يسألها: إن كان عندها طعام فذبحت شاة صغيرة عندها، وطحنت كل ما عندها من الشعير، فكان مقدارًا صغيرًا يكفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض أصحابه، وجاء جابر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يدعوه سرًّا إلى بيته، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو معه المسلمين، فيذهب ألف رجل إلى بيت جابر!! والطعام لا يكفي سوى عدد قليل، فمن أين سيأكل كل هذا العدد؟!
لقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة في الطعام، فبارك الله فيه فأكل جميع المسلمين، وبقي طعام كثير لأهل البيت. _[البخاري] وهكذا كان المسلمون يتعبون ويصبرون، وعناية الله تعالى تؤيدهم وتحرسهم، وبينما هم يحفرون وجدوا صخرة شديدة لم يستطع أحد أن يحطمها، فلجئوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فتناول المعول وضرب الصخرة ضربة فكسر ثلثها، وقال: (الله أكبر أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني أبصر قصورها الحمر الساعة) ثم ضرب الثانية، فكسر الثلث الآخر، فقال: (الله أكبر أعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض) ثم ضرب الثالثة وقال: (باسم الله) فقطع بقية الحجر فقال: (الله أكبر أعطيتُ مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة). _[أحمد وابن جرير].